تُعد القصيدة من أقدم أشكال التعبير الأدبي التي عرفها الإنسان، ومن أرقاها تأثيرًا في الوجدان والعقل.
فهي ليست مجرد كلمات منسقة على وزنٍ وقافية، بل هي صوت القلب حين يفيض شعورًا، ولسان العقل حين يبحث عن معنى للحياة.
عبر العصور، كانت القصيدة سجلًّا صادقًا لمشاعر البشر، تحكي عن الحب والفقد، وعن المجد والحنين، وعن الأرض والإنسان في رحلته الطويلة بين الحلم والحقيقة.
لقد كان العرب قبل الإسلام شعراء بالفطرة، وكانوا يرون في القصيدة وسيلة لتخليد المآثر والدفاع عن القبيلة والتغني بالجمال.
فكانت القصيدة تُلقى في الأسواق مثل سوق عكاظ، حيث تتنافس الألسن على البيان والبلاغة، وتُعلّق القصائد الفائزة على جدران الكعبة فيما عُرف بـ“المعلقات”. ومن هنا وُلد الشعر العربي كفنٍّ يعبّر عن الهوية، والفكر، والعاطفة.
تتنوّع القصائد العربية بحسب مدارسها وأغراضها، فهناك القصيدة العمودية التي تقوم على الوزن والقافية وتُعدّ أساس الشعر العربي القديم، وقصيدة التفعيلة التي جاءت مع الحداثة لتمنح الشاعر حرية أكبر في الإيقاع، وقصيدة النثر التي تمزج بين الشعر والفكر وتفتح المجال أمام الصور اللغوية المفتوحة والتأملات العميقة.
وفي جوهرها، تبقى القصيدة مساحة حرّة للبوح والإنسانية. فهي تلامس الروح وتمنح اللغة جناحين، كما في قول الشاعر:
يا ليلُ طوِّل، فالقوافي موطنـي
والنجمُ يسمعُ ما أقولُ وينثني
إنّي وجدتُ الشعرَ مرآةَ الذي
يسكنُ الفؤادَ إذا سكتتْ سُنني
الشعر بهذا المعنى ليس ترفًا لغويًا، بل أداة للوعي والهوية. فمن خلال القصيدة، عبّر الشعراء العرب عن قضاياهم وأحلامهم، وخلّدوا عبر أبياتهم صور الحبّ والحرية والحنين إلى الوطن. وكان المتنبي يقول:
وإذا كانتِ النفوسُ كبارًا
تعبتْ في مرادِها الأجسامُ
فيما جعل نزار قباني من القصيدة رسالة عشقٍ وتمرّد، قائلاً:
علّمتني حبَّكِ أن أتصوّفَ
وأدينَ بدينِ العشقِ وأكفرَ بالعُرفِ
أما في العصر الحديث، فقد أصبحت القصيدة مرآة لعصرها، تمزج بين التراث والتجديد، وتستخدم صورًا رمزية تعبّر عن تحوّلات الإنسان في زمن السرعة والتكنولوجيا.
لم تعد القصيدة حبيسة الورق، بل باتت تُتداول عبر المنصات الرقمية، تُلقى على المسارح، وتُترجم إلى لغات العالم، لتؤكد أن الشعر العربي لا يزال قادرًا على لمس القلوب أينما كان الإنسان.
القصيدة اليوم ليست فقط أدبًا يقرأ، بل تجربة تُعاش، تجمع بين الإحساس والمعرفة، وتوحّد بين الماضي والحاضر، بين الفكرة والنبض.
فهي امتداد لتراثٍ خالد يذكّرنا بأن اللغة العربية، بثرائها وعمقها، ستبقى لغة الشعر والروح والجمال.